قصد توضيح نقاط محورية في مسارات [الرّواية] و[النّقد]، فتحنا باب الحوار، مع الدكتور الناقد محمد بشير بويجرة من أجل تسليط الضوء على مواضيع هي محل اهتمام (القراء) و(النقاد) على السواء، وجاءت »الإجابات« عن »الأسئلة المطروحة«، ونقدّمها كما هي بلا حذف، ولا تعديل لترسم المشهد [الروائي] والمشهد [النقدي] وفق رؤية [مختص وباحث أكاديمي] له رصيده المعرفي، الذي لا يمكن تجاهله أو نسيانه.. أو تناسيه، لنتابع كل مسار قصد [التقييم والتّقويم] لأنهما أساس [الإرسال والتلقي بصفة عامة. ومن جهة أخرى أساس [الكتابة والقراءة] في فضاء مفتوح بلا قيود مسبقة.. ولا حدود مرسومة وهنا منطلق. الحوار مع الدكتور الناقد نحو الفضاء التالي:
النص الروائي بين القراء.. والنّقاد
❊ النقد للرواية نخشاه ؟ أم نجهله ؟ أم نتناساه؟
- إن سؤالك هذا يطرح إشكالا كبيرا في مجال التعامل مع النص الأدبي على عصرنا نحن العرب عامة و الجزائريون على وجه الخصوص، لأنه لا يكفي أن نقر بضرورة إنهاء عصمة هذا السؤال بالفقرات الثلاثة المذكورة فيه ؛النقد للرواية نخشاه؟ أم نجهله؟ أم نتناسه؟، بل أرى بأن ضرورة المنهج النقدي تفرض علينا سربا من الأسئلة الأخرى نجدها ضرورية في هذا السياق، لعل ملخصها نجده فيما يلي ؛ ما موقع الرواية في ذائقتنا القارئة (عربا و جزائريين)؟ ثم ماذا يشكل عندنا(عربا و جزائريين) النص الروائي؟، ثم هل أنتجنا و ما زلنا ننتج نصا روائيا حقا؟، ثم هل نؤمن بما يقدمه لنا النص الروائي من أبعاد و من رشح لواقعنا؟، ثم هل نحن نصنع النص الروائي كما هو الشأن في الغرب أم النص الروائي هو الذي يصنعنا عند الآخر؟.مع التأكيد على أن كل سؤال من هذه يمكن للمختص أن يستل منه سؤالا أو أسئلة أخرى تثريه و تعمقه، لكن و الحال أننا مرتبطون بفضاء ضيق أكتفي بالإشارة إلى أن محاولة التقرب من الإجابة على سؤالك الكريم تتلخص في الفقرات التالية : ـ
أ) ـ مجمع القراء العاديين/ المستهلكين للنص الروائي، و هذه الفئة ينظر إليها على أن قراءتها للنص لا يخرج عن الاستهلاك العادي للنص، وذلك حين نجدها لا ترى في النص إلا ذلك الاغتراف من الينابيع الجمالية التي تحيط بالنص سواء بفضل جماليات اللغة، أو تأثرا بأحداث النص، أو تقديرا لتيمته التي تعالج قضية إنسانية ما، أو تأثرا بموقف أيديولوجي أو استراتيجي ما، وهذا النوع من القراء هو الذي يرفع الأسهم والمبيعات للنص، مما يمكننا من القول بأن له قيمة تجارية و توجيهية و إعلامية مهمة جدا في الغرب الآن، حين أصبحت بعص الدوائر لا تقيم النص الروائي من جمالياته الذاتية فقط بل أصبحت تقيمه وفق عدد النسخ المباعة واحتكاما إلى عدد قرائه.
ب) ـ مجمع النقاد الإعلاميين، و يقصد بهم تلك الفئة التي تمتهن الاشتغال على النص الأدبي في مختلف وسائل الإعلام السمعية و المرئية و المكتوبة، و هم الفئة التي تلعب دورا محوريا و أساسيا في تسويق النص الروائي وتقريبه للقارئ العادي بما تبدعه من أفكار وآراء تتحكم فيها خيوط و تزكيها توجهات خفية قد لا نعلم مقاصدها ولا نحدد توجهاتها بصورة دقيقة ومضبوطة. ويلاحظ على هذه الفئة، في الغالب الأعم، عدم احتكامها إلى المعايير العلمية و المنهجية الدقيقة في دراسة النص و في تقديمه، مما يمكننا من القول بأن هذه الفئة غالبا ما تكون ميالة إلى طلب ود المجموعة الأولى المتمثلة في القراء العاديين أو بتعبير أدق واسطة بين هذه الفئة و بين النص.
ج) ـ مجمع النقاد الأكادميين، و هم تلك الفئة التي تحتكم إلى المناهج العلمية الأكاديمية في دراسة النص وفي قراءته. وهم فئة ضئيلة مقارنة مع الفئتين الأوليتين بسبب ارتباطهم بالجامعات وبالمؤسسات العلمية الأكاديمية التي تتردد عليها النخب و بسبب اعتمادهم مناهج ضابطة للعواطف و للمبتغيات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية التي قد تتناقض في أحايين كثيرة مع مصالح بعض اللوبيات ذات الصلة القوية بموضوع النص الروائي أو بكاتب النص نفسه.
وبدون شك، فإن المتمعن في مسألة إستهلاك النص الروائي في الغرب يلاحظ نوعا من الترابط ما بين هذه الفئات الثلاث في نهاية هذه الدورة، حتى أننا نعجز في أحايين كثيرة تحديد من يؤثر في من.وذلك لشد الترابط بنسب مختلفة و في فترات زمنية متباينة بين هذه الفئات. و لعل ذلك ما يلحظه الناقد المتمرس من ظهور و بروز بعض المناهج النقدية المتأخرة و بعد أن غاب أصحابها عن هذه الحياة و الذين كانوا في فترات حياتهم يدعون إليها لكنهم عجزوا عن إيجاد صدى لها في حياتهم ثم تثبتت و اشتهرت بعد مماتهم.
❊ ولعل ذلك ما يسمح لنا بالاعتقاد بأن التعاطي العام الذي تمارسه البشرية جمعاء على النص الروائي لا يخرج عن أربعة مجامع؛ـ
1) يشكل خطابا مهما و أساسيا في تقديم المسكوت عنه داخل مختلف الفضاءات التي تحيط بالإنسان أو تساهم، من قريب أو من بعيد، في تأثيث حياة الإنسان بغية معالجتها مستقبلا.
2) يشكل خطابا موازيا للخطابات الاستراتيجية الأخرى التي تتبناها الدولة في تقديم هيبة و أصالة الأمة و قوة أنظمتها.
3) يشكل الخطاب الطعم الذي تقتنص به النوابغ و الإفكار المشردة من الأمم الأخرى و توظيفها فيما يفيد ويساهم في بناء حضارة الدولة و الأمة.
4) اعتبار الخطاب النقدي مادة فكرية صالحة للتصدير كما تصدر أي مادة استهلاكية.
كما يمكن للمدقق في المسألة أن يستخلص بأن النص الروائي الآن أصبح يشكل خطابا معقدا و متداخلا مع كثير من الخطابات الأخرى المعاصرة، حتى أصبح، عند كثير من النقاد، يطلق عليه ذلك الخطاب الذي تتداخل فيه الأجناس القولية وكل الفنون. و نظرا لهذه الاعتبارات أصبحت الرواية، على عهدنا، حمالة أوجه متنوعة ومختلفة تدعوا إلى التأويل وتفرض على قارئها أن يكون هو نفسه حمالا لكم هائل من المعارف ومشبع بدفق من المعطيات التي تؤهله لأن يستشرف عوالم الممكن والمستقبل والتعامل مع عالم الافتراضات بحكمة ورزانة وذكاء.
ومن هنا، بات على الناقد الحق الذي يستخرج عسل النص الروائي والمتذوق لرحيقه المخبأ بين أنياب أشواك مكوناته اللسانية والموحية به عناصره الفنية التي تميزه عن بقية الأجناس الفنية الأخرى. و تلك مهمة لا يكاد يصل إلى منتهاها إلا من تملك ناصية في جميع حقول المعرفة المعاصرة، ذلك التملك المبتدئ بالإيمان بأن معايير النقد وقيمه، في راهننا، قد تحولت تحولا جذريا ابتداء من الاعتماد على الذوق الفردي/العاطفي و مرورا بالاستناد على آليات منهجية وعلمية في استخراج الدلالة ووصولا إلى اعتبار القارئ ركنا أساسيا في تقييم النص الروائي وفي الرفع من مكانته في البورصة الأدبية.
ووفقا لما أشرت إليه يجدر بنا أن نطرح السؤال التالي : هل لنا شيء من كل ذلك ؟. طبعا الإجابة الدقيقة و الحصرية ستحتاج إلى كم هائل من المعطيات و إلى مجهودات مذهلة يتداخل فيها الإحصاء و التحليل، لكني أغامر فأقول : بأننا لا نملك فاصلة واحدة من كل ذلك، أقصد نحن العرب، لأننا في الأساس إما أننا نحتقر الأدب و الأدباء و إما أن سوق عكاظ ما زالت أطيافها تسكننا حتى النخاع، بمعنى أننا ما زلنا لا نرى من أدبية الأدب إلا ذلك القول الذي يمدحنا و يجلل أعمالنا، بل يمكنني أن أؤكد على أننا أصبحنا نخاف من الأدب فمابالك في النقد.
ولعل أكبر دليل على هذه السلوكات ما نعايشه يوميا من تنظيم لتظاهرات يدعون إليها الأدباء والنقاد لا لتقديم الجديد أو تناطح الأفكار أو تثوير الرؤى، ولكن لاكتساب رزق أو تقاسم زهوة (على رأي السائح الحبيب) أو لنيل حظوة لدى أحد الأمراء تمهيدا وتيمنا للتتويج بجائزة نوبل.
لكن، للحق و للتاريخ أقول بصفتي أستاذا للأدب و للنقد الأدبي في الجزائر، بأن الأستاذ الناقد الأكاديمي قد أدى ما عليه حيال هذا الموضوع حين قدم الكثير جدا من المدونات النقدية التي تعد بالآلاف، والتي باتت مكدسة في الأقسام الأدبية بكل تفرعاتها و لغاتها(وحيث تعرض الكثير منها للإتلاف و ستضطر بعض الأقسام إلى رمي هذه البحوث في المزابل تحت دوافع ضيق المكان). وبذلك نستخلص نتيجة مفادها؛ أن الأستاذ الجامعي، في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، قد قام بعمل دؤوب في الاشتغال، بقوة وبكثافة، على النقد الروائي و فق مناهج مختلفة ومتنوعة، وبخاصة في الرسائل و الأطروحات الجامعية. ووفق هذه الوضعية أجد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مقصرة في حق طبع كل هذه الأعمال التي أنفقت في سبيل إنجازها الملايير ناهيك عن العمر الذي أفناه الأساتذة في البحث والتنقيب. وعملية الطبع هذه أراها عبارة عن قطف للثمار وجني لمحصول طيب ونظيف نستطيع أن نتحصل منه، عند بيع هذه الكتب وطنيا وعربيا ودوليا، أموالا باهظة تسخر لترقية البحث العلمي وتستعمل للتعريف بإنتاجنا الأدبي و الروائي و النقدي كما تقدم برهانا للتعريف بأحسن و بأفضل الأساتذة النقاد الذين تتوفر عليهم الجامعات الجزائرية، زيادة على المساهمة في خلق طبقة من القراء المتذوقين للأعمال الروائية منهجيا و أكاديميا مما سيساعد، بدون شك، على تربية ذوق نقدي متميز لدى العامة.
هل هناك »تاريخ بديلش للرّواية«؟!
❊ »ستيفن مور » في أحدث كتاب عن تاريخ الرواية في العالم، يؤكد في الفضاء المفتوح( الثقافي ـ الأمريكي) بأن أصول الرواية مصرية و عربية، و ليست(كما شاع) غربية و أوروبية، فعندما أصدر كتابه الجديد(تاريخ بديل للرواية) في أمريكا، كان أشبه بقنبلة ثقافية ألقيت على الوسط الثقافي، خصوصا الأكاديميين و النقاد المختصين في دراسة الفن الروائي، فأذهلتهم جميعا.
هل هذا المسار النقدي (ضد السائد والمألوف) يفتح آفاقا مغايرة وجديدة للتقييم والتقويم؟.
- إن النص الروائي الآن قد بات يعتبر مزيجا من الفنون وخريطة كاملة من الخطابات، كما ظل النقاد يؤكدون على أن النص الروائي، على مر العصور، ظل مرتبطا بالممكنات وبالامرئيات ؛ بمعنى يتكز في أساسه على التخييل، كما بات، هذا النص، يتميز عن غيره من الأجناس الفنية الأخرى بتوظيفه لعنصر الشخصية وبالاستعانة بكل ما يرتبط بها أو يدور في فلكها من قريب أو من بعيد كالوصف والزمان والمكان واللغة والحوار ومحمولات الذاكرة.
وما دام الأمر كذلك، فإن مسألة القطع النهائي حول النشأة الأولى لهذا الجنس الأدبي سيظل محفوفا بالافتراضات والتخمينات و كذا التحكم في وسائل الإعلام والعمل الدعائي، ناهيك عن العمل البحثي الأكاديمي الجرئ والصادق والذي يجب أن تسخر له الإمكانيات المادية والمعنوية الضرورية.
لكن، ما دمت قد طرحت هذا السؤال، فإني أرى بأن الأجناس الفنية المرتبطة بالقول (باللغة) ستظل، في نشأتها الأولى، من نصيب الأمم والشعوب التي لم تعش لغاتها تغيرات و تطورات جذرية و قوية منذ العصور الأولى، والتي كانت محصلاتها من الحضارة الإنسانية طويلة وقوية جدا.أقول ذلك لأني أعتقد بأن المحصلة الحضارية وبأن قدم اللغة آليتان قويتان في تثبيت القول الحكائي، كيف ما كانت طبيعته و كيف ما تجلت أغراضه،وعليه فإني أرى بأن القول الأول الذي انبنت عليه أسطورة الرواية المعاصرة هو مشرقي بالدرجة الأولى (الحضارات المشرقية القديمة، قصص الأنبياء والرسل مع أقوامهم كما حكتها الأديان السماوية، قصص وحكايات الآلهة وأنصاف الآلهة..).
وذلك على أساس أن صراع الإنسان مع الطبيعة و احتكاكه بها، و كذا صنع الإنسان لآول حرف و لأول كلمة كانت في العالم القديم الذي يقر الجميع بأنه كان الشرق (حسب التقسيم الجيوستراتيجي المعاصر). أما العالم الغربي، الكلاسيكي أو الحديث، فأجده لا يتعدى دوره في استنساخ لغات حديثة و معاصرة من لغات ذات صلات قوية بالعالم و بالحضارة المشرقيين، ثم عمل على تكريس المصطلحات و المناهج ذات الصلة بالجنس الروائي و على الترويج لها بفضل التكنولوجيا التي أصبح يمتلكها حتى بتنا نعتقد أنه الأب الحقيقي لكل شيء.
وما دمنا في حقل هذا السؤال يجدر بنا أن نؤكد على أن المؤسسات الفنية لكل فنون القول، حسب رأيي، ترجع بالدرجة الأولى إلى الفضاء العربي المكتنز بالعناصر الأولى لهذه الفنون مثل فنون الشعر و قصص الأدب الممتلئة بها كتب التراث و مثل الوقائع و الأحداث التي ترصع بها جبين الحضارة العربية الإسلامية من الأندلس إل بغداد، تلك الوقائع الجديرة بالإيحاء إلى فضاءات تخييلية استغلها كثير من ذوي الوهب الفني في أنتاج كم روائي متميز و معتبر، و أعجب بها الكثير من العلماء و القادة و الفلاسفة و الفلاسفة في الغرب و أقروا ذلك في بحوثهم الأكاديمية المتجلية تحت مصطلح « الاستشراق »..
وحينئذ، لا مناص من القول بأن الجزائر، باعتبارها تنتمي إلى العالم الشرقي، حسب التقسيم الجيوستراتيجي المعاصر، قد أنتجت للعالم أول نص روائي في سنة 125م ـ تقريبا ـ بعنوان « الحمار الذهبي » للوكيوس أبوليوس، و قدمت للرواية العربية أول نص روائي عربي فني سنة 1845م بعنوان « حكاية العشاق في الحب و الاشتياق » للأمير مصطفي. و عند ما أقول ذلك أرى بأنه من الممكن جدا أن تتوفر بعض الدول العربية على نصوص أخرى مشابهة لهذين النصين إذا ما توفرت الإرادة و العزيمة في اعتبار الأدب مادة أساسية في بنية هويتنا و في تقويتها و في الحفاظ عليها، و التي يجب التنقيب و النبش عنها بين حفريات الوقائع و الأحداث و الأزمان بدل الاجتهاد و الجري وراء حفر آبار البترول أو الهرولة وراء اقتناص الجوائز الغربية المشبوهة، و عند ذاك ستنقلب كثير من الموازين النقدية عبر العالم.
واستنادا إلى كل ذلك و اتكاء على ذيل السؤال، فإن هناك في العالم العربي كثير من القضايا في حضارتنا وفي حاضرنا بإمكانها فتح آفاق جديدة للتقييم وللتقويم، لعل من أولويات ذلك نجده يتمثل في لملمة العباقرة والمال العربيين وإدخالهما إلى الأوطان من أجل الاستفادة منهما، لكن، مع الأسف، فنحن لا نسير إلا بقدر ما يراد لنا، و لا نفكر إلا بالقدر الذي لا نبتعد فيه عن أرنبة أنوفنا، ولا ننعم إلا بما توفره لنا دور التكنولوجيا وبهرجة وإغراءات الموضة الآتية بقدر مبيت من الآخر.
»الحمار الذّهبي«.. أم »زينب«؟
❊ « مداورش » قرية صغيرة تقع على سفح جبل الأطلس التي تفصل بين الجزائر و بين تونس، و هي منطقة تاريخية أثرية..أين قرأ القديس « أوغستين » البلاغة و علم النحو و حيث نشأ أول روائي عالمي »أبوليوس » صاحب « الحمار الذهبي » وبعدها أعطت صوتا روائيا آخر(بلغة الضاد) الراحل الروائي « الطاهر وطار ».
فهل هذا يعطي للجزائر أسبقية كتابة الرواية قبل (زينب) لهيكل التي تصنف على أنها القائدة والرائدة والمؤسسة للفن الروائي ؟.
ما هي انطباعاتك النقدية حول روايات تاريخ الإسلام لجرجي زيدان ؟.
- بداية يجب التأكيد على أن للجزائر دورا حضاريا متميزا إن على مستوى العالم العربي أو على مستوى حوض البحر المتوسط أو حتى على مستوى بناء بعض الحضارات العالمية، لأني لا أتصور، في العهود القديمة، بناء مجد وحضارة القرطاجيين والرومان خارج أرزاق و سواعد أبناء الجزائر وثرواتها، و الدليل على ذلك أن مجد القرطاجيين ذبل و اندثر بمجرد أن استولى الرومان على كل المناطق الجزائرية الكائنة في غرب »القرطاجيين »، كما أن الأمبراطورية الرومانية كان يصيبها الشلل و يسكنها الهوان والهرم كلما فقدت جزء من الفضاء الجزائري مثل ما حدث مع الوندال.
❊ وحين ننتقل إلى العصور الإسلامية نلخص فضل الجزائر على الحضارة العربية الإسلامية في النقاط التالية : - يبدو، حسب الوثائق التاريخية الرسمية، أنه كان يستحيل فتح الأندلس لو لم يتشكل جيش إسلامي قوي بعد أن تدعم بإسلام فلول من شباب ـ البربر ـ الجزائريين الذين أعطوا دفعا وقوة جديدين لحملة فتح الأندلس، ولعل إسم البطل الجزائري » طارق بن يزيد » وما أبلاه في هذا الفتح، وبدون شك غيره من الأبطال الذين غمرهم التاريخ، لأكبر دليل على ذلك .و إلا ما سبب الغيرة التي وقعت للقائد العربي الإسلامي »موسى بن نصير » من « طارق » بعد ذلك.
كما يبدو لي أنه لولا وقوف كل الجزائريين في وجه الزحف الصليبي الإسباني بعد سقوط الأندلس، لسقطت كل المدن و القصور والمماليك في المشرق العربي.و ذلك لما نعلمه من تلك الحروب والمقاومات التي نظمها الجزائريون في شكل رباطات للدفاع عن السواحل الجزائرية بالخصوص التي احتمى بها وهاجر إليها الهاربون من جحيم محاكم التفتيش التي أقامها الإسبان في الأندلس ضد المسلمين واليهود بعد سقوطها في أيديهم.
كما لا يفوتني، في هذا الشأن، أن اعتقد بأن »فرنسا » ما كانت تعرف هذا التوهج الحضاري إلا باستيلائها على خيرات الجزائر من أراض زراعية و من ثروات طبيعية كالفحم و الحلفاء و غلال البحر و بترول الصحراء، و كذا، باستغلالها لسواعد أبنائها الممثلة في اليد العاملة التي شيدت بها، وبأبخس الأثمان، معظم مفاخرها العمرانية بداية من منتصف القرن (19) وحتى خروجها مخزية سنة 1962 تحت سطوة ثورة التحرير المجيدة، و حيث يلاحظ المدقق و المتتبع لترنحات كثيرة ومتعددة مرت وما زالت تمر بها فرنسا منذ هذا التاريخ، ناهيك عن أزماتها المتعددة، و بالأخص هروب القطاع الصناعي إلى بلدان أخرى خوفا مما آلت إليه الحال في هذه الدولة التي كانت وما زالت تصنف نفسها من أعرق المدافعين عن حرية الإنسان وتضع نفسها أهم وكر للثقافة وللفنون وللفكر الحر.
لأقول بأن الجزائر كانت و ما زالت فاعلا أساسيا في صناعة الفعل الثقافي والحضاري على مدى الأزمنة والأوقات، و لعل أكبر دليل على ذلك ما ذكرته يا صديقي صالح عن رواية « الحمار الذهبي »(الذي يعود الفضل في ترجمته و التقديم له المرحوم الأستاذ الدكتور أبو العيد دودو) الذي يعتبر أول نص روائي عالمي و ليس عربي فقط. و ذلك لتميزه بالميكانزمات الفنية التي يتعاطاها المختصون في حقل السرديات الآن، و بالأخص في الشأن الروائي من بنيات في الشخصيات وحبكة في صناعة الأحداث و من تناصية في الحوارات و من حبكة منقطعة النظير في رسم الفضائين المكاني والزماني، حيث نجد ترسيما دقيقا للأول في شتى جزئياته و نلاحظ تشظيا رائعا للمسألة الزمنية المتراوحة بين الزمن الكرونولوجي إلى الزمن الوجودي إلى الزمن النفسي. كل ذلك دون إهمال لأهمية للغة النص التي كتب بها « أبوليوس »(توجد قراءة مركزة لهذه الرواية عند الزميلة الإعلامية المتميزة زكية كبير.. أتمنى أن توفر لها فضاء للنشر..).
ومن خلال ذلك كله أرى بأن فن السرد و حبكته و تقنياته لم يغب عن المسيرة الأدبية في الجزائر، لما نعرف من أن الجزائر أنجبت مجموعة كبيرة من الأعلام الذين تميزت كتاباتهم بهذا الفن بداية من « الحمار الذهبي » ومرورا على « منامات الوهراني ومقاماته » و على فن « الرحلة » الذي كان رائجا جدا في المغرب العربي، و بالأخص في الجزائر على و جه التحديد، و الذي نجد من رواده « المقري » و »ابن عمار » و »ابن حمادوش » و »السنوسي ».هذا الفن الذي أجده مشبعا بالعناصر السردية التي تدخل في صلب الرواية الحديثة والمعاصرة كالشخصية والحدث و بنيتي المكان والزمان وعنصر اللغة باعتباره الباني الأساسي لميكانزمات النص، و كذلك العجائبية التي أصبحت تمتدح بها الرواية في جنوب أمريكا، تلك العجائبية التي نجدها مبثوثة خلال تلك النصوص التي كان أصحابها يعيشون أهوالا ويعاينون أحداثا ووقائع موغلة في العجائبية إما بسبب ظروف طبيعية مثل الزلازل و الأمطار و الرياح أو بسبب سلوكات بشرية تتسم بالغرابة و العجب تأتيها أقوام و يمارسها بشر.
أما عندما نصل إلى سنة 1845م فسنجد نصا روائيا كاملا متكاملا عنوانه « حكاية العشاق في الحب و الاشتياق » للأمير مصطفى،و الذي أجده النص الروائي الجزائري الذي يؤسس للرواية العربية الحديثة و ليس للرواية الجزائرية فقط، مما يبطل مقولة الريادة لرواية »زينب » التي نشرت سنة 1912(يعود الفضل في تحقيق هذا النص إلى الأستاذ الدكتور الفاضل أطال الله في عمره « أبو القاسم سعد الله ». و بفضله قدمت عن هذه الرواية دراسة أسميتها « الرواية الجزائرية بين التأسيس و التأصيل » نشرته في مجلة « دراسات جزائرية » الصادرة عن معهد اللغة العربية و آدابها، جامعة وهران، سنة 1997، كما أنجز حولها الطالب الأستاذ، في جامعة تيارت الآن، رشيد بن يمينة رسالة « ماجستير » تحت إشرافي بعنوان « باكورة الرواية الجزائرية » في قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة وهران ناقشها سنة 2001) .
أما فيما يتعلق بما أنتجه الأديب العربي المبدع جورجي زيدان من روايات فإني أستسمحك و أستسمح القراء الكرام لأؤكد بأننا في الوطن العربي ما زلنا نئد الأفكار والأعمال النيرة الجميلة التي تفيد في ترصيع جبين الأمة بالنياشين والمفاخر كما كان العرب الأوائل يئدون البنات. لأني أعتقد أن ما أنتجه هذا الأديب الرائع في مجال السرديات، بغض النظر عن مسيحيته، كان قد فتح بابا مفيدا لنا و لحضارتنا لو اقتدينا به في هذا الحقل ولو لم نسلط عليه سيف الحجاج بالصمت تارة وبالقدح أخرى، متناسين أن تجارب الأمم و معاينة الحال أكدت وأثبتت أن الخطابات الأدبية و الأعمال الفنية كانت وستظل أبلغ و أسرع في نشر المعاني و القيم السامية لأمة ما، كما ظلت حتى الآن أنجع وسيلة للتعمق ولفهم حضارتها، عكس باقي الخطابات التي قد تكون تأثيراتها ضعيفة أو قليلة أو منعدمة في نفس المسعى.
❊ »ديوان العرب« و»سلطانة زمانها«!!
❊ لماذا كل هذا الخوف على الشعر(ديوان العرب)؟، و لماذا يصرح البعض بأن (زمن النفوذ الشعري قد ولى)؟، و أن (الرواية) هي (سلطانة زمانها)؟ ، ما نظرتك النقدية أنت كمختص في هذا اللون الإبداعي؟، ثم ماذا عن عبارة »الأكثر مبيعا«، هل صفة « الأكثر مبيعا » تعني الأجود في « المبنى » والمؤثر في « المعنى »، أم أن (للنقاد) أهل الاختصاص رؤيتهم المضادة والمعاكسة؟.
أ) الخوف على الشعر/ زمن نفوذ الشعر قد ولى:
- أستسمحك وأستسمح القارئ الكريم لأقول بأن فكرة « الشعر ديوان العرب » فكرة أستهجنها و لا أتصورها منطلقة من نوايا حسنة، و ذلك بسبب أن الثقافة العربية والإنسان العربي لم يتركا ما يفتخران به إلا الشعر، بل تركا آثارا إنسانية راقية جدا ما زالت الأقلام، قديما وحديثا، معجبة بها حتى الساعة.و لعل ما يصول و يجول فيه المستشرقون من خيرة هذا التراث لأكبر دليل على ذلك، و لعل اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم و دونت به حضارة قمة في الروعة لأحسن دليل آخر على ذلك.
أما ما أبدعه الشاعر العربي القديم (والذي على أساسه ابتدعت فكرة ديوان العرب) فكان لا يتجاوز سبع أوعشر معلقات على الأكثر.و عند ما أرى ذلك فكأني أشتم نية مبيتة في هذا المصطلح الذي لا أجد فيه ما يرفع من قيمة العربي غير تلك القصائد التي قالها و هو هائما في الفيافي و في القفار لا تقع عيناه على أيقونة واحدة من البناء الحضاري الذي كانت تدشنه الحضارتان الرومانية و الفارسية على تخومه الشمالية و متناسيا، في نفس الوقت، حضارة سبأ(و التي من المفروض أن تكون علاقته بها قوية)، المذكورة في القرآن الكريم و التي ما زالت حتى الآن الحفريات العلمية لم تكتشف بعد عظمة تلك الحضارة، لنجده يتغنى بالأطلال و بمهى الفيافي و يمجد غزلان القفار، كأنه لا همة له و لا يملك قيد أنملة من التفكير و التدبر فيما يحيط به، أو لا شيء يملأ طموحاته غير غرائزه السفلى.
ولكن، على الرغم من كل ذلك، يبدوا لي أن مسألة موت الشعر فيها الكثير، أيضا، من الافتعال و فيها، غمز و لمز مقاصدهما الأولى تنصب على الإنسان العربي قبل غيره، و ذلك لكوني متيقن من أن الشعر هو جنس أدبي مواز لجنس الإنسان الآدمي لا يمكن فصل أو إبعاد أحدهما عن الآخر، لأن كل واحد منهما يعيش في عمق الآخر و في خلاياه، بحيث لو مات أحدهما أو أبعد عن صنوه لمات حالا.
❊ و لكن كل ما أراه يحدث الآن لا يخرج عن مسألتين؛ ـ
- أن استهلاك الإنسان على عهدنا غلبت عليه بعض الخطابات المعاصرة مثل وسائل الإعلام بكل أونواعها، و بخاصة القنوات التلفزية و الشبكات العنكبوتية. وهي الخطابات التي وجد فيها الإنسان المعاصر مرغما على التعاطي معها لعدة عوامل قد يطول الحديث لو أتينا على ذكرها.و خاصة عند ما نجد هذه الوسائل لا تهتم بالشعر إلا لماما،أو قد تفعل ذلك لمقاصد و غايات معروفة سلفا.
- إنعدام القامات الشعرية القوية التي في إمكانها أن تقوم في مواجهة هذه الوسائل الإعلامية ليس بالوسائط الجمالية فحسب لأن الشعر و الشاعر لا يفتقدانها، و لكن بالإمكانيات المالية و المغريات الاسترزاقية (المتمثلة أساسا في المال)،والتي ما أحوج الإنسان المعاصر إلى الحصول عليها إملاء لذلك الشبق المعيشي الذي أصبح ينغص حياة الإنسان المعاصر و يهدد براءته و يشوه هوية جمالياته.
ولو تجاوزنا كل ذلك و عدنا إلى المفهوم الحقيقي للشعر، حسب النظريات النقدية المعاصرة، لوجدناه يتركز حول التعريف القائل بأن الشعر: « ..هو ذلك الإنجاز المتجاوز للكائن و المتداول في الموضوعات و في الأساليب و المفاجئ لأفق انتظار المستمع/ القارئ/المتلقي.. »،و حينئذ يمكن القول بأن تذوق الشعر عند الإنسان المعاصر بات يختلف كلية عن تذوق الإنسان الكلاسيكي له، حين كان ذاك الإنسان لا يتذوق الشعر إلا من خلال ذلك الكلام الموزون المقفى و الملقى أمامه من طرف شاعر. أما الإنسان المعاصر فأصبح تذوقه للشعر يتجلى و يبرز من خلال كثير من الإنجازات الفنية المعاصرة حتى في الآلات الميكانيكية و في القيم الاستهلاكية. و نتيجة لذلك برزت، في الفترة الأخيرة، فكرة تقول بتداخل الأجناس الفنية؛ بمعنى أننا قد نجد الشعر في الرواية أو في المسرح أو في القصة القصيرة كما قد لا نجد الشعر في الشعر.
وعلى هذا الأساس فإني أرى بأن لا زمنية محدودة لمفهومي الشعر والشعرية، ولكن مفهوميهما مفتوحين و ممتدين مع امتداد الأزمنة و متطورين مع تطور ذوق و ثقافة و مفهومية القارئ/المتلقي/الناقد. مما يساهم بقوة في بلورة وفي تحول بعض مفاهيم الشعر و الشعرية و كذا في تنوع معتبر لمسالة تذوق ذلك من طرف إنسان هذا العصر وكل عصر.
أما ما يلاحظ على المستوى العام من هيمنة الرواية على بقية الأجناس الأدبية، فأعتقد بأنه راجع إلى قدرة الخطاب الروائي على استيعاب أكبر قدر من الأجناس الفنية التي يمكنها أن توظف فيه؛ كالشعر والمسرح والنحت والرسم والرقص، ناهيك عن تحمله لبقية الخطابات (ضمنيا وإيحاء) مثل السياسة والاجتماع وعلم النفس والفلسفة والاقتصاد وكل الأنماط الأيديولوجية، وكذا إمكانية طرح وجهات النظر الشخصية في هذا الخطاب بواسطة التضمين والترميز والإلغاز؛ مضامين و شخصيات وألسن.
ب) مسألة الأكثر مبيعا..؟ :
إن مسألة الأدب و الأدبية و كل المسائل التي تدور في فلكهما أصبحت،في عصرنا، ذات احتكاك بمسائل أخرى جوهرية في حياة الإنسان و في جوهر اهتمامات السياسات الاستراتيجية التي تتبناها معظم الدول المحترمة، و لنظرب مثلا في الموضوع »باللغة » التي اشتد و ما زال مشتدا لكن على خفاء، حين نجد،قديما، أن الذي يريد أن ينشر لغته يلجأ إلى تعليمها بواسطة وسائل بيداعوجية معروفة عبر الأزمنة و الأوقات، أما الآن فيكفي فقط لكل دولة أو مؤسسة ترغب في نشر لغة بلدها أن تعمل على صنع روائي يجلب إليه الأنظار عبر وسائل الصناعة الإعلامية الثقيلة حتى تجد نسبة الراغبين في الترجمة من هذه اللغة أو نسبة الراغبين في تعلمها ترتفع من وقت إلى آخر(ولعل أبرز مثال على ذلك ما حصل و يحصل مع اللغة الإسبانية بظهور عجائبية الرواية في أمريكا الجنوبية مثلا ماركيز..).
❊ مصطلح »الأكثر مبيعا«.. سلطة السّوق!!
ولتحقيق هذا الغرض في مجال الأدب و الأدبية نجد مصطلح » الأكثر مبيعا.. » يتداول بصفة مستمرة تحت أغراض ومقاصد متباينة و متنوعة، مما يجعله مشبعا بإحالات كثيرة متعددة و متنوعة بل و متداخلة، وذلك لكونه، في الغالب الأعم، قد لا يكون نتيجة لجودة النص الأدبي و جودته بل لعمق وتقنية صناعته و لحمولته مقصدا و غايات لا يدركها القارئ في موطن النص فمابالك بالقارئ العربي.طبعا، أرى ذلك مع الوضع في الاعتبار أن للقارئ/المستهلك في العالم المتحضردورا معتبرا تماما مثل المنتخب(بكسر الخاء) اللذين يمكنهما الحط من شأن النص والدول و الحكومات أو الإعلاء من شأنهما معا.بخلاف ذلك اللاكائن الذي يعيشه القارئ والمنتخب (بكسر الخاء) في عالمنا العربي المهمل، حين نلاحظن في أحايين كثيرة، إعطاء الاعتبار لحصان عربي أصيل أو تظاهرة أوروبية أصلا أحسن من العناية برأيه و الاهتمام به.
ذلك ما يجعل التقييم الحقيقي و الدقيق لمصطلح »الأكثر مبيعا.. » شأن لا يمكننا الفصل فيه بسهولة و يسر في الفضاءات التي يستعمل فيها (العالم الغربي)، و ذلك على اعتبار أن القيم العلمية المهيمنة في هذه الفضاءات؛ تلك القيم التي تتلخص في الأكثر ربحا والأوسع استهلاكا، لتكون النتيجة الاقتصادية و العلمية عندهم: أن المواطن/المستهلك قد قيم المنتوج المستهلك فوجده مفيدا و جميلا له،فيصبح من الحتمي أن ينال صانع (دار النشر) هذا المنتوج حقه في المكافئة المادية (الربح)، كما يكون من حق منجز و مبدع هذا المنتوج أن يتحصل على مقابل ابتكاره (المال) والتكريم من جموع المستهلكين (الشهرة و الاعتراف بالتفوق بواسطة الجوائز). وتلك عملية معقدة جملة وتفصيلا تحت تأثير تداخل المصالح المتعددة؛ بداية من المؤلف إلى صانع النص ومنتجه وموزعه، و إلى مصالح الدولة التي ترصد مضامينه و مقاصده وتأثيراته في المحيط الاجتماعي بطرف خفي طبعا، ناهيك عن تداخل رؤوس الأموال واللوبيات الأيديولوجية والجبهات السياسية بكل تفرعاتها وتوجهاتها.
❊ ج ـ رأي أهل الاختصاص :
- لست أدري ماذا تعني بأهل الاختصاص؟ هل تعني بهم النقاد في فضاء العالم المتحضر، أم تعني بهم النقاد عندنا في الوطن العربي؟.
فإذا كنت تعني المقصد الأول فإن المسألة أيضا دقيقة ومتداخلة، لأنه بقدر ما أشرت في تداخلات المسألة الأدب و الأدبية بقدر ما يحيلنا ذلك إلى تشكل الظاهرة نفسها عند المشتغلين على هذا النص بالقراءة و التقدييم و التقديم له إعلاميا عبر وسائل الإعلام بكل أشكالها و تنوعاتها.وحينئذ، لا أحد يجهل أو يتجاهل الأيادي الخفية و المقاصد المدسوسة في هذه العملية التي أتصورها غير بريئة (فنية محضة). وعندما أقول ذلك فإني لا ألوم و لا أخدش في مصدقيتهم الفنية، لأنه من حقهم الطبيعي (القانوني والشرعي) أن يفعلوا ذلك لأدبهم و مع أفراد أمتهم ومؤسساتهم.
أما إن كنت تعني الفكرة الثانية فإني أتصور بأننا في الوطن العربي (والجزائر أولى) لا نملك (أفرادا ومؤسسات) مشروعا للقراءة أصلا، فما بالك بتحكيم أو التحكم في الكيفية التي نتحكم بها لمعرفة عدد الروايات التي قرئت، ولكننا نملك أموالا التي نفمبرك بها جوائز وهمية (يعرف الفائز فيها حتى قبل أن يعلن عنها)لنقول بعد ذلك بأن هذه الرواية فائزة بجائزة كذا… ووزعت بمباركة من سموه…أو تحت رعاية سيادته….إلى آخر هذه الماركات العربية المسجلة التي تستحلب بواسطتها الجوائز على جميع الأصعة و بخاصة على الصعيد النقدي حين يتهافت النقاد(مجازا) على قراءتها وتقييمها بغية المشاركة فيها في ملتقى أة ندوة عربية لأو دولية ستنظم حتما في أحد الأيام أو السنوات المقبلة في نفس الدولة التي منحت الجائزة لهذا الروائي أوفي إحدى الدول الصديقة لها، هذه المنتديات والملتقيات التي سيدعى إليها حتنما نقاد(تجاوزا) معينون و معروفون بولاءاتهم لإغداقات….
ولعل أبرز دليل على ذلك ما نلاحظه في كل الوقائع العربية من تغيييب نصوص روائية جميلة جدا من حيث المعمار الفني لكنها ظلت غير محتف بها، و لا يذكر أصحابها، و لو بإشارات خفيفة، بينما نجد نصوصا أخرى تهالكت عليها الدراسات و أحيط مؤلفوها بالرعاية و الاهتمام أكثر مما يستحقون، و يحضرني في هذا المجال، عندنا في الجزائر مثلا، الكثير من النصوص و من المبدعين الذين تركوا بصمات واضحة و بارزة في جماليات النص الروائي لكنهم مهمشون و مقصون من الواجهة الإعلامية و من استهلاك نصوصهم من طرف القراء نتيجة للأسباب التي ذكرتها آنفا.
»ثلاثية« نجيب.. وديب.. وأحلام!!
❊ انتشرت في فضاءات العالم العربي عبارة (ثلاثية ؟) مثل (ثلاثية..نجيب محفوظ) و(ثلاثية محمد ديب) و(ثلاثية أحلام مستغانمي)..إلخ…أي أن عبارة (الثلاثية الروائية؟..) أصبحت بمثابة (ماركة مسجلة)ـ إن صح التعبيرـ.
ما ملاحظاتك (النقدية) حول (ثلاثية) كل مبدع ومبدعة، وليكن الثلاثي المذكور(نموذجا ).
الجواب المقترح :
لقد سبق و أشرت إلى أن النص الروائي حمال أوجه؛ مضامينية و أيديولوجية و فنية متعددة، و بالتالي فإنه بات كأنه خبير معاينة لما يقع داخل المجتمع من مسكوتات عنها أو من المكبوتات أو من الممنوعات، تحت أي سلطة كانت، حتى ظل(حسب المناهج السياقية)مرافقا للتطورات الاجتماعية التي تقع داخل المجتمع. و بما أن هذه التطورات ليس لها نقطة نهاية تقف عندها فإن بعض الروائيين(الذين وجدوا أنفسهم ملزمين ـ تحت إجبارية الانتماءـ تجاه مجتمعاتهم بتشريح تلك التطورات الحاصلة في عمق تلك المجتمعات) و جدوا أنفسهم،أيضا،ملتزمين فنيا بالتدليل عن صدق ذلك الانتماء وعن تتبعهم الدقيق والمركز للتطور الذي يحدث،في كل ثانية، داخل مجتمعاتهم.
ولا بأس من الإشارة، هنا، إلى أن ذلك كان يعتبر من هوامش الفرضيات النقدية السياقية التي تلصق النص؛ إبداعا و قراءة و نقدا بمرجع خارجي عنه بغية فهمه و قصد إنزاله في مقاصده التي أبدع من أجلها و في تموقعه وسط المرتبة التاريخية التي يجب أن يكون فيها.كما تجب الإشارة، هنا، إلى أن مصطلح(الثلاثية)، ربما، فرضته ظروف تاريخية وفق نمط أيديولوجي و نسق فني كانت تتطلبهما المراحل الأولى لبناء الدول و المجتمعات في الأقطار العربية، و هي الظروف التي كانت النظرة الفنية فيها تحتكم إلى التدقيق في مسائل التكون و النشوء لتلك الدول و المجتمعات من صلابة العلاقة الترابطية داخل فئات المجتمع من عدمها …
21 mai 2012
Culture